- السيرة / ٠1السيرة النبوية / ٠3الشمائل المحمدية
- /
- ٠1الشمائل المحمدية 1995م
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
رحمته بالمؤمنين والمنافقين والكفار والصبية:
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الخامس عشر من دروس شمائل النبي صلى الله عليه وسلَّم، وقد وصلنا في الدرس السابق إلى رحمته صلى الله عليه وسلَّم، قال تعالى:
﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)﴾
تمهيد:
الرحمة أيها الإخوة كلمةٌ جامعةً لكل الخير؛ المادي والمعنوي، الدنيوي والأخروي، كل أنواع الخير المادي، والمعنوي، الدنيوي، والأخروي مجموعٌ في كلمة الرحمن، فقد قال الله عزَّ وجل:
﴿إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾
ينبغي أن تعتقد ـ وهذا جزءٌ من العقيدة الصحيحة ـ أن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان ليرحمه، فإذا رأيت إنساناً معذَّباً فهذه حالةٌ طارئة، حالةٌ استثنائيَّة اقتضت المُعالجة، فالأصل أن الإنسان خُلِق ليُرحم، أما إذا شذَّ عن الطريق، واستوجب العقاب، يأتي العقاب لا انتقاماً، ولا تشفياً، ولكن يأتي العقاب إصلاحاً وحملاً له على التوبة، أما أن يقول الله عزَّ وجل:
﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)﴾
أي أن الله سبحانه وتعالى أرسل نبيَّه صلى الله عليه وسلَّم لجميع العالمين، والعالمين جمع عالَم، أرسله رحمةً للمؤمنين، ورحمةً للكافرين، ورحمةً للمنافقين، ورحمةً لجميع بني الناس، ورحمةً للرجال، والنساء، والصبيان، والطير، والحيوان، فهو رحمةٌ مهداة، ونعمةٌ مزجاة كما قال عن نفسه صلى الله عليه وسلَّم.
أيها الإخوة الكرام؛ هذا كلامٌ دقيق وخطير، وله أبعادٌ إن فهمناها حق الفهم ربَّما تركت أثراً واضحاً في حياتنا، أما رحمته صلى الله عليه وسلَّم بالمؤمنين فبهدايتهم إلى سعادة الدنيا والآخرة، وباهتمامه لما يُصلح أمرهم في الدنيا والآخرة، وتحذيره إيَّاهم مما يفسد عليهم دنياهم وأخراهم، هذه رحمته بالمؤمنين، قال تعالى:
﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)﴾
وقد فرَّق العلماء بين الرأفة والرحمة، والفرق هو أن الرأفة تمنع ما يؤذي، لكن الرحمة تجلب ما ينفع، فهو صلى الله عليه وسلَّم..
﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)﴾
رأفته تقتضي أن يحذِّرهم من كل ما يؤذيهم في دنياهم وأخراهم، ورحمته تقتضي أن يجلب لهم الخير في الدنيا والآخرة.
أيها الإخوة الكرام؛ الآن دخلنا في موضوع دقيق، الله جلَّ جلاله يقول:
﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾
كيف نفسِّر هذه الآية ؟ النبي صلى الله عليه وسلَّم أولى بالمؤمنين من أنفسهم، هذه الآية تعني أنه مهما تصوَّرت، ومهما توهَّمت، ومهما تخيَّلت، بل ومهما اعتقدت، ومهما تيقَّنت أن صالحك في هذا الطريق، أو في هذا الجانب، ورأيت حديث رسول الله ينهاك عن هذا الطريق، ويأمرك بهذا الطريق، هو أولى بك من نفسه، إن طبقت أمره، وطبقت سُنَّته عاد عليك الخير كله، مهما حاولت أن تفكر، وأن تتفنَّن في تشعيب الأمور، ورأيت مصلحتك في ترك السُنَّة، إن مصلحتك كل مصلحتك، إن فوزك كل الفوز، والتفوُّق كل التفوق، والفلاح كل الفلاح في تطبيق السنة.
طبعاً هذا قد يكتشفه الإنسان بعد فوات الأوان، أما إذا عرفه وهو شاب، أي بماذا أمرنا النبي ؟ عن أي شيءٍ نهانا عنه ؟ لا تعتقد أن تكون مصلحتك بخلاف أمره ونهيه، لا تعتقد أن أمره يقيِّد من حريتك، ولكنه يضمن سلامتك، هذا معنى قول الله عزَّ وجل:
﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾
قد ترى الخير الدنيوي في هذا العمل، في سلوك هذا الطريق، في التعاون مع هذه الفئة، في التقرُّب من هذا الإنسان، وقد ترى أن النبي ينهاك عن هذا، وأنت قد ترى أن مصلحتك هنا، أما النبي يأمرك أن تفعل كذا، يجب أن تعتقد أن كل شيءٍ أمرك به النبي عليه الصلاة والسلام، وأن كل شيءٍ نهاك عنه النبي عليه الصلاة والسلام هو لك، ولصالحك، ولرقيك، ولسعادتك في الدنيا والآخرة، هذا معنى قول الله عزَّ وجل:
﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾
فهل هناك من إنسان أحرص على ذاته من نفسه ؟ هل هناك من إنسان أحرص على سلامة وجوده من ذات الإنسان ؟ على استمرار وجوده، على سلامة وجوده، على كمال وجوده، على بقاء وجوده، لو قرأت سُنة رسول الله القولية والعملية، واتبعت سُنته القولية، وتأسيت بسُنته العمليَّة، لوجدت أن كلمته هي وحدها ولا شيء سواها يحقق لك سعادة الدنيا والآخرة.
لكن حتى يكون الكلام واضحاً الحياة فيها امتحانات، لولا أنه يبدو لك أن خيرك في مخالفة السنة لما كان لك أجرٌ في اتباع السُنة، لولا أنه يبدو لك للنظرة الأولى أن الخير في هذا الطريق والنبي نهاك عنه، ما كان لك من أجرٍ ولا ترقى باتباعك السُنة، شيء طبيعي جداً أن تختلف الظواهر مع الحقائق، لو أنها تطابقت لأُلغيت العبادة.
فمثلاً لو أن الكسب الحلال سهلٌ جداً، وأن الكسب الحرام صعبٌ جداً، لأقبل جميع الناس على الحلال لا حباً في الله، ولا طمعاً برحمته، ولا تقرُّباً إليه، ولا تمنِّياً لدخول جنَّته بل لأنه سهل، معنى ذلك أن العبادة أُلغيت، لكن شاءت حكمة الله أن يجعل الحلال صعباً والحرام سهلاً، هنا الامتحان، لولا أن الظاهر يتناقض بعض الشيء مع الحقيقة، الظاهر، لما كان من عبادة، ولما كان من رقي، لذلك الإنسان العاقل ما الذي يرفع قدره عند الله ؟ إنه يسارع إلى تطبيق أمر رسوله من دون أن يجري محاكمةً حول الخسائر والأرباح، شأن المؤمن..
﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾
أنت تختار هذا البيت أو هذا البيت، هذه الفتاة أو هذه الفتاة للزواج، أن تسافر أو أن تقيم، أم أن تخيِّر نفسك بين أمرٍ، وأن تأتمر، أو لا تأتمر، عندئذٍ لست مؤمناً..
﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾
أي أن شأن المؤمن إذا دعي إلى تنفيذ أمر الله يقول: سمعنا وأطعنا، لعلمه أن هذا الأمر فيه كل الخير، وفيه كل السعادة، أضرب لكم مثلاً، أو أوضِّح لكم هذه الحقيقة من خلال آيتين، الله عزَّ وجل قال:
﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ﴾
على تفيد العُلو، أي أن هذا الهدى الذي في حقيقته كلُّه قيود، فحياة الكافر تفلُّت كامل، ما في عنده شيء حرام أبداً، ما في شيء ممنوع، ما في شيء ما يصير، يأكل ما يشاء، يذهب إلى أي مكانٍ يشاء، يلتقي مع من يشاء، يمتِّع بصره بمن يشاء، كل شيء يمارسه، يقول لك: أنا حر. المؤمن في عنده منظومة قيَم، ومجموعة من الأوامر والنواهي كبيرة جداَ، هذا حرام، هذا مكروه، هذا يجوز أو لا يجوز، هذا يرضي الله، يسخط الله..
﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ﴾
الذي اهتدى الهدى يرفعه، مع أن الهدى كله قيود، و..
﴿أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22)﴾
والضَّال دخل في شيء، دخل في قيْد ؛ إما أنه دخل في السجن، أو دخل في كآبة، أو دخل في قلق، أي هو دائماً مع طلاقته يقيِّده الشقاء، ومع قيود يسعده الإيمان ويطلقه..
﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39)﴾
لذلك هذا معنى قول الله عزَّ وجل:
﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾
اعتقد هذا، اعتقد اعتقاداً جازماً السُنة في هذا، السنة في أن تستقيم، في أن تصدق، في أن تفي بالعهد، في أن تُنجز الوعد، في أن تكون عفيفاً، في أن تتحرَّى الحلال ولو كنت في فقرٍ مدقع، في أن تضع قدمك فوق الحرام ولو كان بالملايين، هذا الإيمان.
رحمته صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين:
روى الإمام البخاري
(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلَّا وَأَنَا أَوْلَى بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ مَاتَ وَتَرَكَ مَالًا فَلْيَرِثْهُ عَصَبَتُهُ مَنْ كَانُوا وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَلْيَأْتِنِي فَأَنَا مَوْلَاهُ))
الحقيقة هذا الحديث له مجال آخر، هذا الحديث النبي عليه الصلاة والسلام لا يتحدَّث عن نفسه كنبي، لكنه يتحدث على نفسه على أنه وليّ أمر المسلمين، النبي مقام ديني، أما ولي أمر المسلمين مقام زمني ـ إن صحَّ التعبير ـ لذلك ولي أمر المسلمين يجب أن يتحمل عن رعيته كل تبعاتهم.
((وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَلْيَأْتِنِي فَأَنَا مَوْلَاهُ))
أما إن ترك مالاً فلورثته، فالمواطن المسلم إذا اغتنى تغتني بغناه الدولة، وإذا افتقر تفتقر، أحياناً حينما يُكلَّف الإنسان فوق طاقته عندئذٍ ينسحب من الحياة، لا يعمل، لا ينتج، هذه القضية متعلِّقة بالنظام الاقتصادي، ونظام متعلِّق بالسياسة الشرعية، فأي مؤمنٍ ترك مالاً فلورثته، ترك ديناً أو ضياعاً أو عيالاً فليأتني فأنا أولى الناس به.
النبي في هذا الحديث الشريف يتحدث لا على أنه نبيٌ مرسل، بل على أنه ولي أمر المسلمين، فكل مجتمع عندما يغتني، القائمون على هذا المجتمع يغتنون بغناه، أما إذا أُفقِر الإنسان أُلغيت القوة الشرائية، هذه قاعدة عامة، فلو فتحنا مؤسَّسة في بلد فقير لا تربح إطلاقاً، أنَّا لها أن تربح، لا توجد قوة شرائية، لا يوجد مال مع الناس، أما إذا اغتنى الناس فأي مشروع ينجح ويربح، وتأتي الدولة فتأخذ الضرائب من هذه المؤسَّسات الناجحة، لذلك هذا الحديث متعلِّق بالسياسية الشرعيَّة، أي أنه إذا اغتنى المواطن تغتني معه كل شيء ؛ تغتني معه المؤسَّسات، تغتني فيه المشروعات، تغتني الدولة كلها، فهذا الحديث يعلمنا الشيء الكثير، أن ولي أمر المسلمين ينبغي أن يسعى لإغناء رعيته، فإن اغتنوا اغتنت الدولة بغنى الرعيَّة.
وفي رواية أحمد:
((أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَأَيُّكُمْ مَا تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيْعَةً فَادْعُونِي فَأَنَا وَلِيُّهُ وَأَيُّكُمْ مَا تَرَكَ مَالًا فَلْيَرِثْ مَالَهُ عُصْبَتُهُ مَنْ كَانَ))
هذه رحمته بالمؤمنين، حرص على سعادتهم في الدنيا والآخرة، وحذَّرهم مما يفسد سعادتهم في الدنيا والآخرة، وأمرهم بما يصلحهم في الدنيا والآخرة، وهو أولى بهم من أنفسهم، لكن أدق نقطة في الموضوع أن المؤمن العميق الإيمان يعتقد أن كل مصلحته، وكل فوزه، وكل نجاحه، وكل سعادته، وكل تفوّقه في اتباع النبي عليه الصلاة والسلام.
كثير من الأشخاص ـ مثلاً ـ يطلب الخاطب طلبًا غير شرعي، يخافون أن يذهب فيتساهلون معه، ويتركون السُنة، ثم يفاجؤون أن الخاطب ترك ابنتهم وقد أمضى معها سَنةً، الموضوع دقيق ؛ بالتجارة، بالبيع، بالشراء، بكسب المال، بإنفاق المال، بالعلاقات الاجتماعية، بالزواج، بالطلاق، في كل شيء حينما ترى أن السُنَّة تقيدك، يا أخي دعونا من السُنَّة الآن، فإذا تحرك الإنسان بخلاف السنة وفق هواه، وفق مصالحه التي يراها فإنه يدفع الثمن باهظاً، هذه الآية دعها في ذهنك..
﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾
فأحياناً يتوهَّم الأهل أن الفتاة إن لم تبد زينتها أمام الأجانب لا أحد يخطبها، أما إذا حجَّبناها، وأبقيناها في البيت، وعلَّمناها، من يعرف ما عندها من قيم جماليَّة ؟ إذاً لا أحد يتقدَّم لخطبتها، الذي يحدث العكس، المرأة التي طبَّقت سُنة النبي عليه الصلاة والسلام الله جلَّ جلاله يهيِّئ لها شاباً مؤمناً يعرف قيمتها ويرعاها، لا تفكِّر أبداً تنجح بخلاف شريعة الإسلام، لا في حياتك الخاصة، ولا حياتك الزوجية، ولا في حياتك الاجتماعية، ولا في تجارتك، ولا في أعمالك كلها، حتى الإنسان أحياناً يخالف السنة ويطيع من هو أقوى منه، كأن يقول: الآن أنا مضطر تلافيت الشر.
هذا الذي أطاعه وعصى الله عزَّ وجل لابدَّ أن يسخط عليه..
((ومن أعان ظالماً سلَّطه الله عليه))
((مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ مُؤْمِنٍ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ))
ولا يوجد أخ ما عنده تجارب سابقة، كأن يكون عمل عملا تمليه عليه مصالحه، فتساهل في تطبيق السُنة، دفع الثمن باهظاً، أبداً.
رحمته صلى الله عليه وسلم بالمنافقين:
قال:
أما برحمته بالمنافقين فبالأمان من القتل والسبي نظراً لظاهر إسلامهم في الدنيا؛ أي هم تزيّوا بزَي الإسلام، وأظهروا الإسلام وأخفوا الكفر، فهذا الذي أظهروه حماهم من أن يعاملوا كالكفار، هذه رحمة النبي بهم، وكما علَّمنا النبي عليه الصلاة والسلام نحن نحكم بالظاهر والله يتولَّى السرائر.
رحمته صلى الله عليه وسلم بالكفار:
أما رحمته بالكفار كيف ؟ قال: فبرفع عذاب الاستئصال عنهم في الدنيا، فمن علامات قيام الساعة ـ كما ورد في بعض الأحاديث ـ هلاك العرب لا هلاك استئصال ولكن هلاك ضعف وتمزُّق. فكأن الله سبحانه وتعالى ضمن للنبي عليه الصلاة والسلام من أن يهلك أمَّته إهلاك استئصال، فقوم عاد، وثمود، وتبَّع، وقوم لوط أُهلِكوا هلاك استئصال..
﴿فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا﴾
لكن أمة النبي عليه الصلاة والسلام، طبعاً إذا قلت: أمة النبي أقصد الأمة التي هنا في هذا الموطن هناك أمة الاستجابة، وهناك أمة التبليغ، فكل إنسان بحكم ولادته، وبحكم والديه، وبحكم مكان ولادته، كان من أبوين مسلمين هذا من أمة التبليغ، قد يكون علمانياً، قد يكون مُلحداً لكن هو من أمة التبليغ، هذا الذي كفر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم رحمة النبي له أنه لا يهلك هلاك استئصال، بل يعذَّب عذاب معالجة، هذا من رحمة النبي بالكفار.
قال ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما في قوله تعالى:
﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)﴾
قال: من آمن تمَّت له الرحمة في الدنيا وفي الآخرة، ومن لم يؤمن عوفي مما كان يصيب الأمم من عاجل الدنيا من العذاب، من المسخ، والخسف، والقذف.
أما قول الله عزَّ وجل:
﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ﴾
فهذه الآية أفضنا الحديث عنها سابقاً، أي مادامت سُنة النبي صلى الله عليه وسلَّم مطبَّقةً في حياتهم فالله لا يعذبهم، لِمَ يعذبهم ؟ يعذبهم إذا خالفوا منهج الله، أما إذا طبَّقوا سنة النبي فهم في أمانٍ من أن يعذَّبوا، إذاً وأنت فيهم تعني وأنك بين ظهرانيهم في حياتك، وشريعتك في حياتهم بعد مماتك..
﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ﴾
بعضهم فهم الآية فهماً آخر، تأكيداً لهذا المعنى ـ معنى رحمته بالكفار ـ أن النبي صلى الله عليه وسلَّم ما دام مُرسلاً إلى هذه الأمة فلن تُهلك هلاك استئصال، هذا المعنى الثالث.
المعنى الأول: ما دامت سنة النبي قائمةٌ في حياتهم لن يعذَّبوا.
المعنى الثاني: ما دام النبي بين ظهراني أصحابه لن يعذبوا.
ما دامت سُنته في أمَّته من بعد وفاته لن يعذَّبوا.
المعنى الثالث: ما دام النبي صلى الله عليه وسلَّم قد أُرسل لهذه الأمة، ما دامت هذه الأمة قد أُرسل إليها النبي عليه الصلاة والسلام، فهي في أمانٍ من أن تعذَّب عذاب استئصال، العذاب الكامل الشامل، عذاب الإهلاك، عذاب الإبادة، هذه الأمة معافاةٌ من أن تعذَّب هذا العذاب، لكن كيف نوفِّق بين هذه الآية وبين قوله تعالى:
﴿وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾
هناك عذاب إفرادي، عذاب فِئَوي، أما عذاب شامل لا يوجد، فهذه الآية تشير إلى العذاب الفردي، فالإنسان الله عزَّ وجل يعالجه أحياناً، يضيِّق عليه، أما أن يهلك الأمة إهلاك إبادة، إهلاك استئصال هذا مما ضمنه الله للنبي تكريماً له ولأمَّته من بعده، هذا المعنى الثالث.
أما المعنى الأول أوجه معنى، أنه أنت متى تعذَّب ؟ تعذب إذا خالفت منهج الله، أما إذا طبقته فلماذا العذاب ؟ وهذا يؤكد معنى قول الله عزَّ وجل:
﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ﴾
كان عليه الصلاة والسلام يقول عن نفسه:
((أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَحْمَدُ، وَالْمُقَفِّي، وَالْحَاشِرُ، وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ، وَنَبِيُّ الرَّحْمَةِ))
وحينما دُعِيَ عليه الصلاة والسلام ليلعن الكفار، أو يدعو على المشركين قال عليه الصلاة والسلام:
((إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً))
فأنت مهمتك لست أن تكون قاضياً تحكم على الناس، أنت داعي إلى الله، لست قاضياَ، كن داعياً ولا تكن قاضياً، كن رحيماً ولا تكن قاسياً، كن يسروا ولا تعسِّروا، سدِّدوا وقاربوا، بَشِّروا ولا تنفِّروا، كن مبشراً ولا تكن منفراً، سدِّد وقارب، يسِّر ولا تعسِّر.
وفي الحديث الصحيح عَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ:
((كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنَادِيهِمْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ))
الخلاصة:
نحن علاقتنا بهذه الأحاديث والآيات، أنت كمؤمن، في مؤمن كله خير، أو المؤمن كله خير، أساس حياته العطاء، أما الكافر أساس حياته الأخذ، أي أنَّه باني حياته بالتعبير الحديث ـ باستراتيجيته ـ على الأخذ، كلَّما أخذ يسعد، المؤمن باني حياته على العطاء، فلذلك إذا أراد المؤمن أن يقتدي بالنبي عليه الصلاة والسلام في هذا الموضوع فليكن رحيماً، ليرحم، ليعطي ؛ من وقته، من ماله، من جهده، من خبرته، من عضلاته، من كل ما أعطاه الله عزَّ وجل حتى يكون رحمةً للناس بشكل مصغَّر جداً، أي أنه نموذج مصغَّر لرحمة النبي عليه الصلاة والسلام، المؤمن أينما حَل يتبارك الناس به.
والمعنى المخالف لقوله تعالى:
﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ﴾
المؤمن تبكي عليه السماء والأرض، الأرض التي كان يطأها تبكي عليه، المكان الذي كان يجلس فيه يبكي عليه، لأن كله خير.
هذه رحمته بالمؤمنين وبالكافرين وبالمنافقين.
رحمته صلى الله عليه وسلم بالأهل والعيال:
أما رحمته بالأهل والعيال، فقد روى الإمام مسلمٌ في صحيحه عن عمرو بن سعيد، عن أنسٍ رضي الله عنه قال ـ دققوا في هذه الأحاديث ونحن في أمس الحاجة إليها ـ:
((ما رأيت أحداً كان أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلَّم))
فأحياناً تجد أب رحمته غير طبيعيَّة، زائدة، هذا الأب من أسعد الآباء، والذي يكون في النهاية أن أهله يحبونه حباً لا حدود له، ويتنافسون في خدمته، فأنا أرى أن أحد أسباب سعادة الإنسان أسرته، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان أرحم بالعيال.
((ما رأيت أحداً كان أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلَّم))
كان إبراهيم ابنه مسترضعاً له في عوالي المدينة، أي بمكان بعيد في المدينة، فكان ينطلق ونحن معه، ينطلق النبي أي تقريباً واحد ساكن بالمهاجرين وابنه بالمخيَّم، مسافة طويلة، سيقطع قطر المدينة، فكان ينطلق ونحن معه فيدخل البيت فيأخذ ابنه المسترضع فيقبِّله ثم يرجع.
هكذا ورد، من شدة محبته لأهله كان ينطلق مع أصحابه من بيته، أو من مسجده إلى طرف المدينة، ليرى ابنه إبراهيم عند مرضعته فيقبله ويرجع، ما الذي دفعه إلى هذا ؟ حُبه لأهله، رحمته بهم.
قال عمرو لما توفي إبراهيم قال عليه الصلاة والسلام:
((إن إبراهيم ابني، وإنه مات في الثدي ـ أي رضيع، أي في سِن رضاع الثدي ـ وإنه له لظئرين ـ أي مرضعتين ـ تكمِّلان رضاعته في الجنَّة، فإنه توفي وله ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً))
ومن رحمته بأهله أنه كان يعاونهم في الأمور البيتيَّة، كما تقدَّم عَنْ الْأَسْوَدِ قَالَ سَأَلْتُ عَائِشَةَ مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُ فِي أَهْلِهِ قَالَتْ:
((كَانَ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ))
فأحياناً تجد شخص في البيت دائماً في خدمة أهله ؛ يرتِّب، ويقوم بأعمال من أعمال البيت، إذا كان مرتاح وما عنده شغل، وزوجته مرهقة فعاونها هذا من سُنة النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: فما كان صلى الله عليه وسلم من جبابرة الرجال، بل كثيراً ما كان يخدم نفسه بنفسه.
هناك رجال جبابرة، أي يضرب، ويكسِّر، ويسب، إذا دخل البلاء للبيت، تجده وحش وشيء مخيف، النبي عليه الصلاة كان رحيماً، في إنسان دخوله يبعث الفرح للبيت.
فما كان صلى الله عليه وسلَّم من جبابرة الرجال بل كثيراً ما كان يخدم نفسه بنفسه.
أي أن مؤنته خفيفة، العيال نائمين يتعشَّى لوحده، فيتناول لقمتان، أما يقيم القيامة لماذا ناموا قبل أن يأتي ؟ يوقظهم قوموا اعملوا عشاء، إذا كان قميصه غير مكوي تقام قيامة المرأة، تُطلَّق، تتقلَّع على بيت أهلها ؟! نسيت قميص، نسيت زر لم تقطبه، هذا جبَّار. قال: ما كان صلى الله عليه وسلم من جبابرة الرجال، بل كثيراً ما كان يخدم نفسه بنفسه.
ففي مسند أحمد وغيره عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا سُئِلَتْ:
((مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْمَلُ فِي بَيْتِهِ قَالَتْ كَانَ يَخِيطُ ثَوْبَهُ وَيَخْصِفُ نَعْلَهُ وَيَعْمَلُ مَا يَعْمَلُ الرِّجَالُ فِي بُيُوتِهِمْ))
هذه رحمته بأهله؛ أي بزوجاته ـ.
رحمته صلى الله عليه وسلم بالصبيان:
أما رحمته بالصبيان فقد روى الشيخان وغيرهما عَنْ أَنَس بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((إِنِّي لَأَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ وَأَنَا أُرِيدُ إِطَالَتَهَا فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلَاتِي مِمَّا أَعْلَمُ مِنْ شِدَّةِ وَجْدِ أُمِّهِ مِنْ بُكَائِهِ))
أي كثيراً ما كان، وفي صلاة الفجر التي سَنَّ لنا أن نقرأ فيها أربعين آية، أو ستين آية، في صلاة الفجر إذا سمع بكاء طفلٍ، وأمه تصلي خلف رسول الله، كان يقرأ أقصر سورةٍ ويسلِّم، رحمةً بهذه الأم التي يناديها ابنها ببكائه هكذا.
ومن رحمته بالصبيان أنه كان يمسح رؤوسهم ويقبِّلهم أحياناً، وهذا الشيء يكاد يكون واقع، اللقطاء في العالَم الغربي أصبحت نسبتهم وبائيَّة، أي احتمال الشخص الذي أمامك واحد من اثنين لقيط، واللقطاء لا رحمة في قلوبهم، لأن الرحمة يرضعها الطفل من ثدي أمه، الطفل عندما ينشأ في بيت بين أمه وأبيه، كيفما كان هذا البيت، هذا العطف، وهذا الضَّم، وهذا التقبيل، وهذه العناية، وهذا الإطعام، وهذه المداعبة، هذا يتغذَّى بالرحمة، فإذا كبر وصار بمنصب في عنده رحمة، يقول لك: هذا مربى. تربيته المنزلية عالية لا يؤذي أحد، يعامل الناس كأنهم أولاده، هذا من رحمته في قلبه، أما هناك أشخاص تعجب لحالهم يتلذَّذون بإيذاء الخلق، يتلذَّذون بإيقاع الأذى، يتلذَّذون بتعقيد الأمور، فإذا قدر يعذب إنسان ويجعله يرتبك يشعر بسرور، فهذا ما رضع الرحمة من ثدي أمه، هذه أخلاق اللقطاء، الذي عاش في الطُرقات ؛ لا عرف رحمة الأب، ولا رحمة الأم، ولا إنسان عطف عليه، ولا أُعطي درساً في العطف، فلذلك والعياذ بالله عندما ينحرف الإنسان أو أن يهمل أولاده ـ فأنا دائماً وأبداً عندما أعالج قضية زواج أو خلاف زوجي نعد للمليار قبل أن أٌقول له: طلِّق ـ لي كلمة أقولها لإخواننا الكرام دائماً: أنت تتزوَّج وهي تتزوَّج، من الضحية ؟ الأولاد، هذا الابن صفي مشرَّد، أبوه ضد أمه، أمه أمّه، وأبوه أبوه، والأب والأم مختلفين، فلذلك في الأعم الأغلب يتشرَّد، أن أعرف شخص طلَّق، كان أبًا ناجحًا جداً، طلَّق زوجته، الزوجة الجديدة ما قبِلت أن تعيش معه ومع أولاده، فوضعهم عند أهله، أهله كبار في السن ـ والده ووالدته ـ لم يستطيعوا يضبطوا الأولاد، الابن الأول الأكبر صار له ثمانية سنوات لا يعرف أين هو، اختفى، وابنتان انحرفتا، هو تزوج، وهي تزوجت، من الذي انحرف ؟ الأولاد.
فلذلك الموضوع عندما ينشأ الطفل مع أمه وأبيه ؛ يرضع الحنان، يرضع العطف، يرضع الحُب، يرضع الرحمة، فهذا إذا كبر تجد عنده أصول تردعه، لاحظوا إذا امرأة ما تزوجت تجدونها قاسية جداً، لأنها لم تنجب ولد، هي لا تعرف معنى الأمومة، لا تعرف قيمة الابن، أما إذا كانت امرأة متزوِّجة وتعلم فرضاً، لها أولاد، الملاحظ على المعلمات اللواتي ما عندهن أولاد ـ أي لم يتزوجن ـ تجدونهن قاسيات بشكل غير معقول، ما ذاقت لذَّة الأمومة، ولا ذاقت طعم البنوَّة.
لذلك ومن رحمته صلى الله عليه وسلَّم بالصبيان ما ثبت عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ قَالَ:
((لَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ جَعَلَ أَهْلُ مَكَّةَ يَأْتُونَهُ بِصِبْيَانِهِمْ فَيَمْسَحُ عَلَى رُءُوسِهِمْ وَيَدْعُو لَهُمْ فَجِيءَ بِي إِلَيْهِ وَإِنِّي مُطَيَّبٌ بِالْخَلُوقِ وَلَمْ يَمْسَحْ عَلَى رَأْسِي وَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا أَنَّ أُمِّي خَلَّقَتْنِي بِالْخَلُوقِ فَلَمْ يَمَسَّنِي مِنْ أَجْلِ الْخَلُوقِ))
أنت تلاحظ إذا قبَّلت طفل ولم تقبِّل أخوه يتطلَّع فيك هكذا، جرح، النبي عليه الصلاة والسلام كان يأمرنا أن نعدل ولو في القُبَل، والحقيقة أحياناً يكون في عندك ولدين أو ثلاثة، أو أولاد ابنتك أو أولاد ابنك، واحد أذكى من الثاني، واحد أجمل من الثاني، لا تنساق مع هواك فتعتني بالأجمل، والأذكى، أنت الآن تمشي مع هوى نفسك، أما الأكمل أن تعتني بالآخر نفس العناية حتى تأخذ بيده، ما تعقده، أما مجتمعنا قاسي أحياناً يعتني بالذكي والجميل، والأقل ذكاء والأقل جمال تجده مهمل، هذه من قسوة المجتمع، حتى في التعليم المعلم الناجح يجد الطفل الذي وضعه العام أقل من غيره، أفقر، أقل جمال، أقل ذكاء يعتني فيه، يرفع له معنوياته، يبث فيه الحماس، يثني على اجتهاده، وإذا أجاب إجابة صحيحة يثني عليها ثناءً كبيراً فينعشه، كن رحمانياً لا تكن شهوانياً، حتى في معاملة الأبناء والاثنين أولادك، اعتني بالأقل، بالأقل ذكاء، بالأقل جمال اعتني فيه، ارفع له معنوياته، عاونه على نفسه.
ومن رحمته بالصبيان أنه صلى الله عليه وسلم " كان يمسح رؤوسهم ويقبِّلهم ". كما جاء في الصحيحين عن عائشة. قالت: " قبَّل رسول الله صلى الله عليه وسلَّم الحسن والحسين ابني علي، وعنده الأقرع بن حابس التميمي، فقال الأقرع: إن لي عشرةً ما قبَّلت أحداً منهم قط. فنظر إليه عليه الصلاة والسلام ثم قال:
((من لا يرحم لا يُرحم))
هذه الأطفال ـ أطفالنا ـ هم عدة المستقبل، الحقيقة يجوز الإنسان يكون نفض يديه من الكبار، فالأمل أين الأمل ؟ في الصغار، إذا نشَّأناهم نشأة طيبة، نشأة إسلاميَّة، علَّمناهم أمر دينهم، المعوَّل عليه هم الصغار، كل واحد عنده ابن أو بنت ممكن يدخل الجنة من أوسع أولادها من خلال أولاده فقط، علِّمه القرآن، علمه أدب النبي، علمه السُنَّة، خذه معك على الجامع، احترمه، دلِّله، أكرمه، حتى ينشأ على حب الله ورسوله.
((علموا أولادكم حب نبيَّكم وحب آل بيته))
اذكر له مآثر النبي، رحمة النبي، مواقف النبي، كيف كان أصحابه.
وفي الصحيحين حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ:
((جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ تُقَبِّلُونَ الصِّبْيَانَ فَمَا نُقَبِّلُهُمْ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَ أَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ))
أي ماذا أملك لك إن نزع الله الرحمة من قلبك ؟ فهناك كثير من الآباء إذا دخل إلى بيته يمضي وقت طويل في مداعبة أولاده الصغار، لكي يتألَّف قلبهم، حتى يحبوه.
وروى الشيخان والترمذي عَنِ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
((رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ عَلَى عَاتِقِهِ ـ أي يركبه على أكتافه ـ يَقُولُ اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُ فَأَحِبَّهُ))
وروى الترمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ يَقُولُ:
((سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ أَهْلِ بَيْتِكَ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ وَكَانَ يَقُولُ لِفَاطِمَةَ ادْعِي لِيَ ابْنَيَّ فَيَشُمُّهُمَا وَيَضُمُّهُمَا إِلَيْهِ))
وكان يقول لابنته فاطمة:
((أين ابناي الحسن والحسين؟))
فقد عدَّهم أولاده.
ومن رحمته بالصبيان وحبه لهم إدخال السرور عليهم، أنه صلى الله عليه وسلَّم كان إذا أوتي بأول ما يُدرك من الفاكهة، يعطيها لمن يكون في المجلس من الصبيان. إذا قُدِّمت له الفاكهة أول مرَّة في موسمها ينظر إلى أصغر الحاضرين سِناً، ويعطيه لهذا الطفل الصغير.
كما روى الطبراني عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما
((أن النبي صلى الله عليه وسلَّم كان إذا أوتي بباكورة الثمرة أي أولها، وضعها على عينيه ثم على شفتيه، وقال: اللهمَّ كما أريتنا أوله فأرنا آخره، ثم يعطيه من يكون عنده من الصبيان))
هذه لها معنى عميق، الطفل يحب الفاكهة، ولا يعرف أن والده ما معه ثمن الفاكهة، فعندما يرخِّص الإنسان الفاكهة ويجعلها متوافرة بين أيدي الناس، الآن كم الناس هم فرحين بموضوع الموز، القضية سهلة ثلاثة كيلو بمئة ليرة، أما عندما يجد الطفل أن ثمن كيلو الموز مئة وستين ليرة، ويقول لأبيه: بابا اشتر لي الموز، والأب ليس معه ثمن الموز، ما معه ثمن كيلو هذا الموز، فالطفل الصغير يحب الفاكهة، وتأمين الطعام للطفل الصغير متعة كبيرة، لأن جسمه ينمو، يحتاج إلى غذاء، إلى شيء يعينه على بنائه الجسدي، فلذلك عندما يتشتغل الأب ويتعب، يذهب إلى شغله من الساعة السادسة، يتاجر، يقيم مشروعًا زراعيًا صناعيًا لكي يؤمن لأولاده الطعام والشراب، هذه عبادة بكل معنى الكلمة.
ليس في الإسلام إثنينيَّة، أنت في طاعة الله، وأنت في منهج الله عزَّ وجل، وأنت في عملك ؛ المعمل، المكتب، مدرس، محام، طبيب، صيدلي، مزارع، بأي مكان، أنت في عملك من أجل أن تأتي بقوت أولادك، ولحكمةٍ بالغة جعل الله الحلال صعباً لترقى، الحلال صعب لهذا قال عليه الصلاة والسلام:
((من بات كالاً في طلب الحلال بات مغفوراً له))
أحياناً يأتي الواحد على البيت ميت من التعب، الحياة صعبة، كسب المال صعب، وكسب المال الحلال صعب، وإذا كنت أنت إنسان عادي كذلك فكسبه صعب أكثر، إذا كان الواحد عادي وما له أي ميزة وحلال، فهذا صعب على صعب، فإذا جاء بهذا المال وأمَّن فيه طعام لأولاده، أمن لباس لأولاده، هذا عمل من العبادة، من الدين، أنت ما خرجت عن الدين، فالعمل عبادة.
ومن رحمته دمع عينيه لفراق ولده إبراهيم، فعن أنسٍ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم دخل على ابنه إبراهيم رضي الله عنه وهو يجود بنفسه ـ أي في حالة الاحتضار ـ فجعلت عينا رسول الله تذرفان بالدموع، فقال عبد الرحمن بن عوف: " وأنت يا رسول الله تبكي؟ ". فقال:
(( يا ابن عوف إنها رحمة " ثم أتبعها بأخرى قال:" إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون ))
إذا بكى الرجل فلا مانع، ولكن لا يتكلم كلام لا يليق بإيمانه، أحياناً يموت الأب فيقول لك: انهدَّ الجسر ـ الله موجود ـ خرب بيتنا ـ ما خرب بيتكم، الله الموجود، الله هو الرزَّاق ـ مات المعيل ـ هو كان معال معكم كله كلام كفر ـ أما الإنسان يتألَّم..
"... وإن عليك يا إبراهيم لمحزونون ".
وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما " أن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم رُفع إليه ابن ابنته وهو في الموت، ففاضت عينا رسول الله بالدموع، فقال له سعد: ما هذا يا رسول الله؟ قال:
((هذه رحمةٌ جعلها الله تعالى في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرُحَماء))
الواحد يرحم الصغار، يعتني فيهم، يكفيهم، ينيِّمهم نومة مريحة، يطعمهم أكلة طيبة، يأخذهم سيران. والله أحياناً إذا أخذت أولادك سيران تكون في أعلى درجات العبادة، من لهم غيرك ؟ يأتون إلى المدرسة فيقولون: والله بابا أخذنا إلى هنا، كل ابن يتكلَّم عن والده أين أخذه، وأنت خذه مشوار، عطِّل وقتك ما في مانع، ابذل جهد ما في مانع، فالعناية بالأولاد جزء من الدين لكي ينشأ على محبة رسول الله، أن أباه مؤمن اعتنى فيه.
ومن رحمته صلى الله عليه وسلَّم بكاؤه لثقل مرض بعض أصحابه كما ورد في الصحيحين، عن ابن عمر رضي الله عنهما:
((أن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم عاد سعد بن عبادة ومعه عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقَّاس، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم فبكى رسول الله، فلما رأى القوم بكاء رسول الله بكوا فقال: ألا تسمعون إن الله لا يعذِّب بدمع العين ولا بحزن القلب ولكن يعذِّب بهذا أو يرحم، وأشار إلى لسانه ))
لا يعذب ببكاء العين ولا بحزن القلب، مُعفى، أما إذا تكلَّم الإنسان كلام كفر ـ واحد توفيت زوجته، ولها أخت أكبر منها بعشر سنوات فقال: كنت خذ تلك التي ما لها زوج، أخذت لي هذه ـ طبعاً هذا كلام فيه كفر، فيه عدم معرفة بحكمة الله عزَّ وجل، فالإنسان لا يعذب لا بعينه ولا بقلبه إنما يعذَّب بلسانه.
ومن رحمته صلى الله عليه وسلَّم بكاؤه لموت صاحبٍ من أصحابه، ومن ذلك ما رواه الترمذي عن عائشة ـ أحياناً يكون في أشخاص عندهم قدرات قيادية، وحولهم أشخاص كثيرون، ولكن ذكاء وخبرة في جمع الناس، ولا رحمة في قلبه، أما النبي عليه الصلاة والسلام في رحمة في قلبه، يحب أصحابه حباً حقيقياً، أصحابه أهله، وهكذا المؤمنون، حب حقيقي، مودَّة حقيقيَّة.
فأنا أقول لكم هذا المقياس، وأرجو الله أن يكون صحيحاً: أخوك المؤمن إذا الله أكرمه بشيء كأن اشترى بيت، أو تزوج امرأة ممتازة، أو أخذ دكتوراه، أو تعيَّن بمنصب رفيع، أو حقَّق مكانة اجتماعية كبيرة، إذا فرحت له وسررت من أعماقك هذه علامة إيمانك، وإن تضايقت علامة النفاق..
﴿إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ﴾
المنافق يتألَّم من الخير إذا أصاب أخيه، يتألَّم، هذا المقياس لا يخيب أبداً، ما في إنسان ما في حوله أصدقاء مؤمنين، يا ترى أخوك أخذ دكتوراه ؟ وأنت تضايقت ؟ متى أخذها ؟ هذه أخذها بالأموال، على الفور يطعن فيه، إذا تزوَّج أخوك يحاول يبحث عن نقاط ضعف لكي يرتاح، من حسده يبحث عن نقاط ضعف، أما إذا كان فرحا لأخيه بشهادته، بزواجه، بعمله، بتجارته، فرحت له فأنت مؤمن ورب الكعبة، تعد نفسك معه بخندق واحد، لأن الله عزَّ وجل قال في آية دقيقة جداً:
﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا﴾
ليس له ذنب، لم يتكلَّم ولا كلمة، ولا تكلَّم بحرف، ولكن لأنه أحب..
﴿أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا﴾
الله جعله في خندق المنافقين، وخندق الكفَّار، أنت مع المؤمنين يجب أن تفرح للخير إذا أصابهم، أو تحزن لما أصابهم من شر، فإن قلت: ما دخلني، هذا الكلام لا يليق بالمؤمنين.
ومن رحمته صلى الله عليه وسلَّم بكاؤه لموت صاحبٍ من أصحابه، وذلك ما رواه الترمذي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم " قبَّل عثمان بن مظعون وهو ميت وهو صلى الله عليه وسلم يبكي ".
وفي رواية ابن سعد في الطبقات عن عائشة رضي الله عنها: قبَّل عثمان بن مظعون وهو ميت، قالت: فرأيت دموع النبي تسيل على خد عثمان.
يرحم أصحابه، يحبهم، يعرف قدرهم، يعرف قيمتهم، يعرف ميزاتهم.
وعند ابن الجوزي في كتاب الوفاء عن عائشة رضي الله عنها قالت:
(( لما مات عثمان بن مظعون كفَّ النبي الثوب عن وجهه، وقبل بين عينيه ثم بكى طويلاً، فلما رُفع على السرير قال: طوبى لك يا عثمان لم تلبسك الدنيا ولم تلبسها ))
أي مت فقيراً لم تصب من الدنيا ولم تصِب منك.
رحمته صلى الله عليه وسلم بالمساكين والضعفاء:
وأما رحمته بالمساكين والضعفاء، فقد تقدم ما رواه البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: " إن كانت الأمة ـ أي المملوكة ـ لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلَّم فتنطلق به حيث شاءت ـ أي إذا في بنت صغيرة في البيت، أحياناً الطفل يعرف أن هنا توجد سكرة، أو بسكوت مغلق عليه، فيمسك يد والده ويشدَّه، هذا قبل أن يدرك، قبل أن يتكلَّم، فكان عليه الصلاة والسلام إذا طفلة صغيرة أمسكت بيده، وسارت به سار معها ـ فتنطلق به في حاجتها أي ليقضي لها حاجتها من شراء طعامٍ أو متاعٍ أو نحو ذلك.
وروى النسائي عن ابن أب أوفى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلَّم: كان لا يأنف ـ أي لا يتكبَّر ـ أن يمشي مع الأرملة والمسكين فيقضي لهما الحاجة.
وعن سهل بن حنيفٍ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلَّم كان يأتي ضعفاء المسلمين ويزورهم ويعود مرضاهم ويشهد جنائزهم.
وفي درسٍ آخر إن شاء الله تعالى نتابع الحديث عن رحمته باليتيم، ورحمته بالحيوان، ورحمته بالطيور وما إلى ذلك.